الولاة هم الحكام وطاعتهم واجبة أما العلماء فهم مستشارون

الأمير تركي الفيصل

TT

في اللقاء الذي جمع بين سيدي صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطـني، وأصحاب الفضيلة العلماء، كان من بين المتحدثين صاحب المعالي الدكتور الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، وهو من العلماء الأجلاء الذين أكن لهم كل التقدير والاحترام، وقد لفت انتباهي في حديث معالي الدكتور عبد الله اشارته إلى أن ولاة الأمر هم الحكام والعلماء وهو قول أجدني غير متفق معه فيه، فما أعتقده وأعرفه أن ولاة الأمر هم الحكام وأما العلماء فهم مستشارون لولاة الأمر ينصحونهم ويرشدونهم. وللوصول إلى الحقيقة الناصعة رجعت إلى مجموعة من المصادر منقباً عن الموضوع ووصلت إلى أقوال عدة وآراء كثيرة منها قول أبو البقاء، أيوب بن موسى الكفوي (ت: 1095 هـ) في الرؤساء والعلماء في قولـه تعالى: في ما ورد عن أولي الأمر: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر منكم» سورة النساء آية 59، وقولـه تعالى «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي اْلأَمْرِ مِنْهُمْ» سورة النساء آية .83 وان أصح الأقوال الواردة في المراد بولي الأمر في الآية الأولى قولان:

الأول: أهل القرآن والعلم وهو اختيار مالك (الإمام مالك بن أنس بن مالك بن ابي عامر الاصبحي ت: 179هـ) كمـا ورد في (الجامع لأحكام القرآن) 5/.261 والثاني: أنهم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة وقـال بذلك الطبري، محمد بن جرير (ت: 310هـ) في تفسيره (جامع البيان في تأويل القرآن) 8/495، والكَيَّا الهراسي، علي بن محمد (ت: 504هـ) في (أحكام القرآن) 2/420/425:

ويلقب الإمام بألقاب عدة اصطلح عليها العلماء ولا مشاحنة في الاصطلاح، فهو يلقب بـ:

1 ـ الخليفة.

2 ـ ولي الامر.

3 ـ الإمام... الخ.

وقد عَرَّفَ الإمام الماوردي الشافعي (ت 450هـ) الخلافة بقولـه: خلافة النبـوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا والخليفة أو ولي الأمر هو القائم بها.

وعرفها بذلك الإمام أبو يعلى الحنبلي (ت: 458هـ).

وعرف القاضي عبد الجبار (ت: 415هـ) الإمام كالتالي:

«الإمام في الشرع اسم ممن له الولاية على الأمة والتصرف في أمورهم على وجه لا يكون فوق يده يد».

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت: 1206هـ) رحمه الله:

«الأئمة يجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا اجتمعوا على إمام واحد» ..الخ ( الدرر السنية في الأجوبة النجدية) 9/.5 وفي (مجموعة المؤلفات الكاملة) 9/42 عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول الشيخ: « ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة الأمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يؤدوا الأمانة، وأن يحكموا بالعدل، وأمر بطاعتهم، فلأبي داود عن أبي سعيد مرفوعاً: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليُؤَمِّروا أحدهم». وله عـن أبي هريرة مثله فيه تنبيه على الوجوب في ما هو أكثر من ذلك.

وفي كتاب (طرح التثريب) لمؤلفه الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي (ت: 806هـ) يقول في فائدة طاعة ولاة الأمور:

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصِ الأمير فقد عصاني».

وقولـه صلى الله عليه وسلم: «ومن يُطِع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني» فيه وجوب طاعة ولاة الأمور وهذا مجمع عليه.

وفسر القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري (ت: 671هـ) قولـه تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْر مِنْكُمْ» (سورة النساء ـ الآية 59)، قائلاً: لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته جل وعز أولاً، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيًا في ما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثًا، على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم.

وذهب سهل بن عبد الله التُّستَري (ت: 283هـ): الى أنه إذ نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي فإن أفتى فهو عاصٍ، وإن كان أميراً جائراً.

وتلخيصاً فإن الحنابلة وكما ورد في كتاب (المغني) لموفق الدين بن قدامة الحنبلي (ت: 620هـ) والمحقق من قبل الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركـي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، يذهبون إلى أن ولي الأمر هو من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته، ثبتت إمامته، ووجبت معونته، لما ذكرنا من الحديث والإجماع، ولو خرج رجل على الإمام، فقهره، وغلب الناس بسيفه أقرُّوا لـه، وأذعنوا بطاعته وبايعوه، صار إمامًا يحرم قتاله، والخروج عليه ـ ويدخل الخارج عليه في عموم قولـه عليه السلام (من خرج على أمتي، فاضرِبوا عنقه بالسيف، كائنًا من كان) فمن خرج على من ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه عُدَّ باغياً وجب قتاله.

وأما قول الشافعية عن ذلك فلقد ورد في كتاب (مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج) شرح الشيخ محمد الشربيني الخطيب (ت: 977هـ) على متن «المنهاج» لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي (ت: 676هـ) والقول هو: من أنه تجب طاعة الإمام وإن كان جائراً في ما يجوز من أمره ونهيه لخبر: اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّر عليكم عبد حبشي مجدّع الأطراف. ولأن المقصود من لقبه اتحاد الكلمة، ولا يحصل ذلك إلا بوجوب الطاعة، وتجب نصيحته للرعية بحسب قدرته.

وقال الإمام الشافعي (ت: 204هـ): لو شغر الزمان عن الإمام انتقلت أحكامه إلى أعلم أهل ذلك الزمان..

وفي (الموسوعة الفقهية) التي تصدرها وزارة الأوقاف الكويتية ذُكِرَ أن النووي نقل عن القاضي عياض (ت: 544هـ) أن العلماء أجمعوا على وجوب طاعة أولي الأمر من الأمراء والحكام، وقد ذهب جمهور الفقهاء والمفسرين في تفسير الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْر مِنْكُمْ» (سورة النساء ـ الآية 59) إلى أن المقصود بولي الأمر في الآية هم الأمراء وأهل السلطة والحكم، وهناك قول بأن المقصود بأولي الأمر في الآية هم العلماء، قال الطبراني: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة لصحة الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة في ما كان طاعة لله وللمسلمين مصلحة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيليكم بعدي ولاة قبلكم البر ببره والفاجر بفجوره، فاسمعـوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلُّوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم» ..الخ.

ويقول الدكتور عمر الجيدي في بحثه بعنوان (الاستدلال بتشريع أولي الأمر وموقف الفقهاء منه) 3/929 والذي قدمه في «ندوة البيعة والخلافة في الإسلام» التي عقدت تحت رعاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة المغرب الشقيق في عام 1405هـ، ما يأتي: أ ـ إن الأمراء والسلاطين أوامرهم نافذة في الناس، فهم في الحقيقة أولو الأمر، أما العلماء فليس لهم أمر نافذ فيهم، فهم يشرعون ولكن لا يستطيعون تنفيذ هذا التشريع، فكأن حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى.

ب ـ إن الآية وردت في معرض التشريع، وإن أولها وآخرها يناسب هـذا الرأي، فأولها أمر للحكام بأداء الأمانات ورعاية العدل، وأما آخرها فأمر بالرد إلى الكتاب والسنة في ما أشكل، وهذا من شأنه أن يليق بالأمراء لا بغيرهم..

ج ـ إن الله تعالى نص في هذه الآية على التنازع بقولـه: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ»، وهذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء، لأن العلماء لا يمكنهم أن يعصوا الأمراء، أو ينازعوهم الأمر، ما داموا على الحق متبعين حكم الله ورسوله.

د ـ إن النصوص متضافرة على طاعة الأمراء، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومـن عصى أميري فقد عصاني). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّر عليكم عبدٌ حبشي مجدوع الأطراف). وقال عليه السلام: (أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدوع الأطراف).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر، فإنه ليس لأحد أن يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات ميتة جاهلية)، وعن عبادة بن الصمت قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، إلى غيرها من الأحاديث الكثيرة الصحيحة، حتى قال القاضي أبو بكر ابن العربي الإشبيلي (ت: 543هـ): (السلطان نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب له ما يجب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التعظيم والحرمة والطاعة، ويجب الصبر على إذايته والدعاء له عند فساده).

ولقد ذهب الاستاذ عبد الرحمن بن عبد الله التركي في كتابه (طاعة ولي الأمر) الى ان: الراجح أن المراد بأولي الأمر ـ إذا أُطلقت ـ الأمراء والحكام، وهو قول جمهور الخلف والسلف، كما صرح به الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى.

وهكذا نرى أن ما ذهب إليه معالي الشيخ عبد الله التركي في تعريفه لـولاة الأمر هو مخالف لما اتفق عليه جمهور الآراء والمشرعين، ولم يقل به إلا القليل من جمهور العلماء والفقهاء، وبتحكيم المنطق والنظر في تعريف من هو الإمام، وملاحظة من يبايَعُ من قِبل المسلمين لرعاية مصالحهم. كل ذلك أكمل لكاتب هذه السطور أن ما نشأ عليه من اعتقاد إنما هو في محله، والغرض من هذا كله هو التنبيه والاستدلال على الحقائق. والله الموفق.